إبان الثورة السورية الكبرى ضد الاحتلال الفرنسي وعند نزوح الثوار إلى منطقة الجوف شمال الجزيرة العربية ((
وادي السرحان ,قريات الملح , الحديثة ,.... )) عاش الثوار في ضنكٍ من الظروف القاسية تكاد الجبابرة لا تتحمله , فقد كانت طبيعة تلك المنطقة قاسية في حرارتها ورياحها السفيانية وجدبها وعدم وجود مصدر للماء سوى عين صغيرة اسمها (
عين جوخة ) وهي مياه مذغة لاتكاد تصلح للشرب , وقد مرّ على أهلنا فترةً طويلة لا يعرفون فيها طعماً للخبز ....فهم يأكلون مما توفره الطبيعة من نباتات كالأميصع والقطف أو من حيوانات كالضب والأفعى والغزلان إذا توفرت !!!
في هذه المرحلة من الشقاء والجوع والظمأ أرسلت انكلترا (( بالتنسيق مع فرنسا وهما وجهان لعملة واحدة )) أرسلت شاحناتٍ تحمل الغذاء والمؤونة إلى وادي السرحان ... وتفاجئ الثوار هناك بالجنود الإنكليز يفرشون موائد الحديد (( القابلة للطي )) ويمدونها على مساحة واسعة من الأرض ويضعون عليها الأطعمة الفاخرة والمياه الصافية ...
في هذه الأثناء يدخل الضابط الإنكليزي الذي يقود هذه العملية ومعه المترجم إلى القائد العام للثورة السورية والذي كان يجلس على بساطٍ صغيرٍ رثعٍ لا يقي رجليه من رمال الأرض في بيتٍ متواضعٍ من الشعر .........
لم يقف القائد العام لهذا الضابط وكانت عادة لديه تجاه ضباط العدو فقام الضابط الإنكليزي بالجلوس بجانب سلطان باشا وأعطاه جانبه وبدأ يتكلم مع المترجم بعد أن أحضر الجنود مجموعة من صناديق المال إلى داخل بيت الشعر ووضعوها أمام القائد العام.
قال الضابط للمترجم : قل لسلطان أن هذا المال حصته وحده وذلك الطعام له ولرجاله
أجاب سلطان باشا متكلماً مع المترجم : (( اسأل سيّدك ماذا يريد مقابل هذا العطاء ))
يجيب الضابط : (( أن تتخلى عن قيادة الثورة السورية وأن تعلن ولاءك لفرنسا ))
وعندما تــُرجمَ الطلب قام سلطان باشا بحفن حفنة من رمال الأرض وقال بغضب : أن حفنة من تراب بلادي أثمن من ذهب انكلترا كله أخبر أسيادك بأننا على درب الجهاد حتى آخر قطرة من دمنا ............
(( في أثناء هذا التفاوض حدث أن أحد الثوار الذين أنهكهم الجوع قد غافل الجنود واختطف عن إحدى الموائد قطعة من اللحم وأخذ منها لقمة في فمه وحينها أتت عينه بعين سلطان باشا الذي نظر إليه بحدّة فخجل الثائر من موقفه الضعيف وتفل ما في فمه وألقى ما في يده ..... لقد شاهد الضابط الإنكليزي هذه اللحظة الرهيبة فعدّل من جلسته متأثراً بما رأى ..))
وبعد أن تـــُرجمَ جواب سلطان باشا للضابط , وقف أمامه واعتمر عمرته وأدى التحية العسكرية لسلطان ..وانصرف مع جنوده .
ما حصل بعد هذه الحادثة :
هناك روايتان لما حدث فيما بعد , الرواية الأولى ضعيفة المصدر والرواية الثانية مصدرها المرحوم المجاهد ابو حمد يوسف العيسمي الذي عاصر الحدث بكل تفاصيله .......
الرواية الأولى :
تواترت أخبار محاكمة هذا الضابط عسكرياً باعتبار النقاط التالية مآخذاً عليه :
أولاً : عدم مصافحته لسلطان الأطرش عند دخوله عليه
ثانياً : عدم محاولته اقناع سلطان الأطرش كأسلوب تفاوض وفشله بالنتيجة
ثالثاً : اداءه التحية العسكرية أمام سلطان باشا
يجيب الضابط مدافعاً عن موقفه :
إن سلطان لم يقف عند دخولنا عليه , وإن وقف , فكيف لي أن اصافح يداً ( قد ) تساوم على أرضها بسبب
المال والطعام , وقد أديت التحية العسكرية في نهاية التفاوض لأنه رفض بشهامته أن يتخلى عن حفنة
من تراب ارضه مقابل ذهب انكلترا كله كما قال وأسجل هنا ,أننا ندرب الجندي في كلياتنا الحربية ثلاث
سنوات زارعين فيه الروح المعنوية والعزيمة ليصمد في ساحة الحرب وكثيراً ما نفشل بذلك ....
إن سلطان الأطرش بنظرةٍ واحدة استطاع إعادة بناء معنوية ثائرٍ هدمها الجوع والعطش ( وروى الحادثة )
سيدي القاضي : في أي كليةٍ حربية درب سلطان جنوده ؟ وبأي عزمٍ شحنهم ؟ وهو لم يوفر لهم
السلاح المناسب والطعام المطلوب كما نوفر نحن لجنودنا
انه يستحق التحية العسكرية في كل بقاع الأرض وكان لي هذا الشرف
على أثر هذه المحاكمة تم ترفيع الضابط الانكليزي رتبة عسكرية باعتباره سجّل درساً في الشرف العسكري
وفي الروح المعنوية التي تكلم عنها أثناء دفاعه
مصدرهذه المعلومة لم يكن موثقاً في كتب تاريخية مثله مثل الكثير من الأحداث المهمة
في تاريخنا والتي لم ينصفها الزمن إنما وصلت هذه المعلومة عن صدور ذلك الرعيل العريق الذي شهدها بأم عينه وقد لمّح المرحوم سلطان باشا لهذه الحادثة في مذكراته ولم يشرحها بالتفصيل
الرواية الثانية : (
التي مصدرها المرحوم المجاهد يوسف العيسمي ))
أن المترجم الذي رافق الضابط الإنكليزي اسمه ميخائيل جبارة وشاءت الصدفة أنه تواجد مع المرحوم يوسف العيسمي في سيّارة لنقل الركاب كانت تقلهم على طريق عمّان وقد تعرّف ميخائيل جبارة على المجاهد يوسف العيسمي وروى له رأي الضابط الإنكليزي فيما حدث ونقل ذلك الأثر الكبير الذي تركه سلطان الأطرش في نفسه قائلاً : (( لقد ذهل الضابط لما رأى من تصميم وجسارة عند القائد العام للثورة وعدم تنازله عن مبادئه رغم الجوع والعوَز الذي ألم به ورفاقه المجاهدين في المهجر ورغم المغريات الثمينة والدسمة التي عُرضت أمام الجميع في البادية وأكد الضابط أن أكثر ما هزه موقف ذلك المجاهد الذي تناول في فمه قطعة اللحم ومن ثم تفلها بسرعة عندما جاءت عينه بعين سلطان الأطرش وقال : / نحن نتلقى تدريباً قاسياً لأكثر من ثلاث سنوات في الكلية الحربية وأكثر ما نعتني بالناحية المعنوية التي تشحذ من عزائمنا في ساحة القتال وعند الشدائد وكثيراً ما تخذلنا معنوياتنا , ولكن أين درّب سلطان الأطرش جنوده الذين يعيدون بناء معنوياتهم بنظرة واحدة حقاً أنه قائد عظيم وحقاً أنه يستحق ورفاقه أن نؤدي لهم التحية العسكرية .... ))
أخوتي الأعزاء :
الحادثة وقعت في مطلع ثلاثينات القرن الماضي
وكان لي شرف كتابة قصيدة من وحي الحدث رغم مرور ما يقارب الثمانون عام عليه والحق أقول :
ليس هناك كلامٌ يسمو إلى مستوى الفعل الذي قدمه الأبطال في تاريخ جبل العرب الأشم ولكنها حبة مِسكٍ لا أكثر في هذا المضمار العريق .... وإليكم القصيدة
............................
قصيدة بعنوان (( تراب و تبر )) :
وش رجّح الكفـــّات عنــــد الميـــازين
..................... قــُل يالعليم وهات عـــِلم الـصراحــــه
تراب وتبر , والجوع بَسْط الميــــادين
..................... وِجـْبار كسر الـضيم دُمّل جـــــــراحه
تراب وتبر , وش حَصّل السـوم بثنين
..................... وربعي على عـج الــسوافي مــــراحه
تراب وتبر , وديار قفــــــرة من البين
..................... ومـير الأميصع والقــَطف مع امـلاحه
بلقع وْ قيض ومذغـــة المــــــاه بالعين
..................... وكم من رضيعٍ ونــّسَتـــْه المـنــــــاحه
ديده نشف , وِثــْبوت عزم الحــــديثين
..................... وْ حَقتين يـكبح للمعـــــادي جْمــــــاحه
ما غير كفكِف تــْبِرَك وْمــــاش عِلمين
..................... سرٍ نضـــَتــْه صْدور حَق افتضــــاحه
حذراك من هوش الذيـــــاب المجيعين
..................... يـعدي على قض الـمكامن جْــــــواحه
وريح الشوي لو جاز عَبْق الريــــاتين
..................... ونجوعنا مْن الجوع تنشق كتـــــــاحه
شــَمّ الخنا مــــــا يْحوق شــُمّ العرانين
..................... وِخـْشوم من فوق السمـــاكـين نـــاحه
ياهيه ربعي عالـمبــــادي حــــريصين
..................... وِحْرابهم للموت شــَفــّت اجـــــــداحه
وِعقادنا سلطان قِـــيل الســـــــــلاطين
..................... محنا بْحال ضنوك تــسدل جنــــــاحه
وعند الهفــــا لـــــــو لدّت العين للعين
..................... يوثق قـلوب الـقوم عزم وْ رَجـــــاحه
وْحقٍ لنا نحضـــــاه لـــــو مرّت سنين
..................... وْلاراعنا شط الزمن والـمســــــــاحه
وان كان ما تدري به الثــــــار والدّين
..................... ربعي على المتراس فاضت ارواحـه
واللي بقوا بــِمْسانــَعَ العــــز بـــــاقين
..................... وْلا منهم اللي بالمطامــع تــِنــــــاحى
قــــومٍ على ضنك الحَديـــــثي مْقيمين
..................... لاما ضواة الحـــق يـبلج صَـبــــــاحه
وحفنة ترابٍ ضوعها مْن الريــــاحين
..................... أخير من عِفــْن بــْصنــاديق فــــــاحه
واخير من رشف الخنا وميّة ( السين )
..................... مذغاً غدى في ( جوخة النبك ) واحه
علـــّم تويسك يا سنيد المعـــــــــــادين
..................... حنا شــْكام جيوش تدرع ســــــــلاحه
وعز المواقف نرفـــــقه بـــــالبراهين
..................... قبل وبعد , بـسيوفنــــــــــا والفصاحه
ما هِيْ افلامٍ دبــلجوهــــــا المخرْجين
..................... وْلا هـــِيْ سوالف جـايفاتٍ ريــــــاحه
مدلولنـــــا يـبداك عنـــــد الحـــــفِيدين
..................... جيلٍ تليد العــــــــز جَدّد فــَــــــــلاحه
ألمجد ما يجفي خــــــــــــْطاة الميامين
..................... وبلعون حــُزنا بالمكــــارم وشـــــاحه
حزيران/2001
وسأذكر رقم البيت والشرح :
1ـــ الميازين : الموازين ج ميزان والبدو تقول : ميازين
2ـــ
بسط : بفتح الباء وتسكين السين : في وسط
3ـــ
عج السوافي : الرياح التي تحمل معها الرمال
4ـــ
مير : اختصار لــ : ماغير , ا
لأميصع والقطف : نباتات صحراوية
5ـــ
بلقع : أرض مقفرة
مذغة : المياه المالحة ,
بالعين : المقصود عين المياه
6ـــ
الحديثين : جمع مقصود به الأحداث من ألأولاد صغار السن ,
وحقتين : تثنية لـــ وحق الله وهو قسم عند العامة
9ـــ
الرياتين : الرئتين ,
نجوعنا : النجع : مكان الإقامة بشكل جماعي في البر ,
كتاحه : الكتاح : رائحة الشوي
10ـــ
شم الخنا : كناية عن رائحة الطعام الذي جلبه العدو ,
شــُم العرانين : الأنوف التي بها شمم وعزة ,
السماكين : كوكبان
11ــ
شفــّت : تهيّأت ,
جداحه : الجيم أصلها قاف والقصود لمعان الحراب
12ــ
قيل : القيل : السيد في قومه أو الملك العظيم
16ـــ
بمسانع : المسانعة عند العامة : الإقبال
19ـــ
ميّة السين : ماء النهر المعروف في فرنسا ,
جوخة النبك : اسم الماء الموجود في منطقة النبك شمال الجزيرة العربية
20 ـــ
تويسك : التويس عند البدو : الزعيم ,
شكام : حديدة اللجام المعترضة في فم الفرس والمقصود نحن القادرين على كبح العدو
مع العذر للأطالة .........